mercredi 23 septembre 2015

ساتوري الكينونة ( قراءة في كتاب قوة الآن )

علي زيراوي
صفاقس 18-09-2015
ما أروع[1] أن تنكشف للمتأمل المتجرد الأحجبة  البالية التي ما انفكت تطوّق صروحا عريضة من المعنى و أبعاد أوسعَ للحياة  تخرج عن دائرة المألوف
و ما أجلّ أن ترتطم روح الباحث عن حقيقة سرمدية , التواق لمعانقة أوجه أسمى للكينونة , بصخور زائفة كان يظن أنها ترسم الحدود المتأبّدة للمقبول من البناءات الذهنية و الفكرية و الاجتماعية و حتى النفسية من جهة فضلا عن إقامتها التعاريف الممكنة للوجود الإنساني و مكوناته و مصدره من جهة  أخرى
و لعل المعاني المتضمّنة في هذه الكلمات تكون عصية على فهم كل من لم ينفذ إلى الفضاء الروحي الأعلى بما يفترضه من لا مكان و لا زمان و لا مادة و لا مفاهيم ذهنية متأصّلة صلب العقل الأنوي المشروط . من هنا كان حري بصاحب الكلمات هذه تحذيرَ السابح في مستنقعات الفكرة و المؤمن  بالحقيقة الواحدة أو المتشرف بكل إطار انتماء مهما كانت تسميته  من متابعة قراءة هذا الهذيان ناصحا إيّاه بالانصراف إلى متابعة إحدى نشرات الأخبار أو إحدى المنابر السياسية مذكرا إياه بضرورة التفاعل المتشنج مع الآراء المخالفين و إلا فستفقد المشاهدة رونقها  
على أنه في مستهل هذا العمل كان من الضروري أن ينبه أن المرامي بالوجه العام  أنبل من أن تشير إليها الكلمات فالغبي وحده من يظن أن العبارة قادرة على إماطة اللثام عما يتخفى وراءها من مقصد فماذا إذا كان المقصد يستهدف الروح و أيّ مقصد  يبحث عن حاضر أبدي لا يعترف بالقوانين الحاكمة لهذه الحياة . بيد أنه و مع وعينا بخصوصية المسألة فإننا سنحاول قدر الإمكان من خلال الكلمات أن نسهم في مشاركة ذرة حب و سلام أبديين و ذلك من خلال قراءة مبسّطة في كتاب قوة الآن الدليل للتنوير الروحي للمعلم إيكهارت تول
من يعتقد  أنه بإمكانه استيعاب هذه العبارات و كل العبارت  المحاكية لها التي قد تعترضه لاحقا بواسطة عقله بما يتوفر عليه من آليات خداعية تكاد تكون فطرية غير مراع لخصوصية المعاني التي تتجاوز العقل من ناحية , و لطبيعة الظرف الذي خطّها فيه صاحبها و نوع الموسيقى التي كان تطرب أذنيه وقت كتابتها فهو واهم لأنه يمزج بين العقل المفكر و بين حقيقة الذات الإنسانية ؛ فنحن لا نحتاج تشكيلا ذهنيا إضافيا لأنه يساهم قيد أنملة في التغيير بل يزيد من طين التماهي غير الواعي مع الذات و الظروف بلّة إنما نحن بحاجة إلى وعي . فأحرى به تناول هذا العمل لا بعقله و إنما بوعيه الأعلى  الذي يستوعب عقله . فإذا أخضعها إلى عقله ستجده يسقط في ذات الوهم الذي سقط فيه أسلافه ممن كانوا أكثر منه شهرة و آمن بكوجيتو ديكارتي عاجز عن ملامسة أدنى حقائق الوجود الإنساني و أكثرها بداهة و أيسرها وصولا إليها فساوى بين العقل و الوجود لينتج عن ذلك نكرانه الاستهجاني لكل ما يخرج عن دائرة العقل غير عارف بأن عقل آدم و من بعده سلالته قد أصيب بمرض بنيوي عضال يتمثل في اختلال وظيفي بمقتضى هذا المرض سكن العقلَ ورم خبيث مسؤول عن المخادعة و الإيهام لحامل العقل بأنه هو العقل ذاته في حين أن الذات أشمل من العقل  
الذات أشمل من العقل
تلت نزعة إيكهارت تول في كتابه الشهير  قوة الآن في دحض هذه المعادلة ( العقل و الذات ) حين عنون أول فصوله ب " أنت لست عقلك" فبيّن أن جوهر الإنسان أوسع من أن يُختزل في عقل و قال لكل متطابق مع هذه الملكة التي تم الانحراف بوظيفتها و تعميمها على نحو مبالغ فيه مبينا له حقيقة هويته  " أنت عقل بشري تتظاهر بكونك إنسان ( تتفاعل مع عقول أخرى و تؤدي أدوار درامية أخرى "
قد يتبادر للوهلة الأولى لدى القارئ فكرة عداء العقل .لكن و إن كان العديد من المعلمين الروحيين و بعض رجال الدين القدماء يتبنونها إلا أن هذا لا يمكن أن يمنع من الجنوح نحو تبني طرح توائمي يوفق بين حتمية الرجوع إلى العقل  غير متغافل عن حقيقة عدم وحدانيته في النفاذ إلى مختلف  أبعاد الوجود من حيث هو معيار مرجعي و أداة مخصوصة للجنس البشري فنحن  نقدر  دوره في تمييز هذا الكائن المخصوص عن غيره من الموجودات اللاحية و الحية على حد السواء و لكن هذا لا يعني أن نجعل الحامل و المحمول واحدا فالعقل أداة جليلة حين نضبط استخدامها على نحو صحيح و يكون ذلك حين نصبح نتحكم فيه بدل أن يتحكم فينا و يتحقق ذلك حين ندرك الفرق بيننا و بينه ( حين ندرك اننا لسنا عقولنا ) فهو ليس فقط مجرد عضو بيولوجي يسكن جسدا إنسانيا إنما هو كيان مرَضي غازي لكيان فعلي بعد أن انتحل صفته و نصّب نفسه مكانه .و بعد حصول هذا الوعي الذي يمثل تحولا جوهريا حقيق بنا وقت ذاك اختيار الانعتاق من الوهم الذي يجعلنا لا شيئ أكثر من جسد بشري و عقل
لقد تم الانحراف بوظيفة العقل ليصبح التفكير عند 80 %من الناس ذو منحى سلبي  و هو إدمان باعتباره  يولد لا قدرة على اختيار التوقف فنحن لا نعلم بأن العقل يمكن رميه جانبا حين نفرغ من الحاجة إليه و يمكن العودة لاستعماله متى وجدنا ذلك ضروريا , مما يعني أن المعضلة تكمن في عدم معرفتنا لكونه أداة و أنه  ليس هو الذات و من ثم ليست الذات العقلَ  . يعبر عن هذا المعنى بقوله :  "حين لا تهتدي إلى زر إيقاف العقل و توقفه متى تريد فاعلم أن عقلك يقودك فأنت تتطابق معه دون وعي إلى درجة أنك لا تعرف أنك عبد له  و بالتالي ستأخذ الشخص المملوك على أنه أنت" و يكون ذلك إنباء  بحياة الدراما التي يعيشها المرء معتقدا أنها الحياة الفعلية و  ليست حياة مزيفة
يفسر ذلك الوعي  بأنّ استمرار التفكير اللاّطوعي في داخل الرأس و تدفقه يوهم صاحبه بعدم قدرته على إيقافه حينما يكون أمرا متجذّرا على نحو من الطبيعة أو بالأحرى الوراثة لأن الطبيعة الحقة هي الوعي و ليس هذا التطابق فهو حل بعديّ على الإنسان بفعل أمراض جمعية متراكمة
 يمكن تناول هذا القياس التمثيلي لتقريب الصورة و توضيحها ؛ وهو أن حالنا مع عقولنا , على حد عبارة الكاتب , كحال المجانين حين يأتون الأفعال الجنونية فالفرق بيننا و بينهم أن أفعال عقولنا الجنونية لا تظهر للعيان فهي تتفاعل مع بعضها داخل الكيان الذي يوحّد بين العقل و ما يحمله من صوت[2] من جهة و بين الذات الحقيقية من جهة أخرى . لذلك فإن الصوت يحكم و يقيّم و يبدي الآراء و يقارن و يشكو . هو العدو الأول للتنوير فأنت لست الصوت الذي في رأسك و إذا أردت هجر حياة البؤس الخاضعة لقانون الأقطاب عليك بالاستماع لهذا الصوت بدل ظنه أنت و ظنك هو فالمتطابق مع فكره يرى من الحماقة أن يسأل هذا السؤال ( ماذا يحدث في داخلي هذه اللحظة ؟) و هو بذلك لا يعلم بأنه المدخل الأساسي لليقظة الروحية و من ثمة بلوغ التنوير
 هي ذي عملية التطابق مع الذهن بحيث نتوهم أن مجاري الأفكار الذهنية هي كل شيئ و لا ندري إمكان توفر الحقيقة أو الحياة أو الوجود على بعد آخر مخالف لهذا التفكير
وبما أننا لا ندرك ذلك فيمكن اعتبارها حالة طبيعية  أو كما يحلو للكاتب تسميتها ( الخلل الوظيفي )
 لقد خلقت هذه المطابقة اللاواعية مع العقل  ستارا مبهما يكون معه التحديد الذي يحجب كل المعاني الحقيقية و الجوهرية التي عادة ما يكون العمق يميزها فتتبدد الحقيقة الجوهرية و يحل محلها تمظهرها الخارجي لدينا ( الذي نعبّر عنه من خلال الكلمات )  أو بعبارة أوضح نجعل من فكرتنا حول الحقيقة هي الحقيقة عينها
 و الأخطر على الإطلاق أن هذه المطابقة تحعلنا لا نميز بين الحياة من ناحية و وضعية الحياة أو حالة الحياة من ناحية ثانية فالأولى تتميز بالكمال و الكليّة وهي حقيقة الذات ( كل ذات تتمثل في إحساس بوجود روخي عميق ) و المنفذ المؤدي لها هو الآن ( كما سنبيّن في قسم الخااص بالزمن النفسي) , أما  وضعية الحياة فهي مجموع التصورات و التجارب العقلية المحيلة إلى الحياة . لذلك  ينبغي أن لا نهدم الحواجز بينهما
فالحقيقة الوحيدة التي  حان موعد الاصطدام  بها من قبل المتماهي مع أفكاره هي أن كل ما يظهر لنا كشرّ من منظورنا المحدود هو في الحقيقة جزء من الخير العالي الي لا نقيض له ( الخير فيما اختاره الله ) و في غالب الأحيان  ذروة المعاناة تجعلنا نعرف من نحن ما وراء أسمائنا و أشكالنا ( سنبيّن ذلك حينما نتطرق إلى مفهوم الحالة القصوى في قسم المقاومة و الاستسلام ) ذلك أنه لا مناص لبلوغ حالة الوعي الأعلى[3]  من معرفة أنك لست مجرد انعكاس لحزمة من الحالات و أنك وضعيتك هي خيار نابع عنك و ليست قدر محتم لا فكاك منه فالعقل هو الذي ينسج خيوط هذا الوهم بإيعاز من الأنا التي يب على الإنسان أن يعرف أنها كائن محتال يدعي كونه هو كامل الذات .لذلك فإن هذه المطابقة اللّاوعية مع العقل و ما يأتي به جعل منها العائق الرئيسي أمام إمكان رؤية  أقل تعقيدا للحياة و أكثر سحرا و هيبة من خلال استحداث زوايا نظر ظلت محجوبة عنا لسنون طوال حيث يعتبر إيكهارت تول زوال هذه المطابقة بفعل اليقظة و الانتباه هي التنوير بعينه فتراه يعتبر التنوير هو حالة  الشفاء من داء التطابق إذ يقول "التنوير هو نهاية الاستعباد المرعب للتفكير المتواصل" فما هو الدواء المفضي للتنوير ؟   
دواء التماهي و النافذه المطلة على النور الكامل
تقتضي بساطة  التنوير و اليقظة الروحية المشاهدة و لا شيئ غير المشاهدة ؛ مشاهدة الأفكار و هي تزور العقل قبل مشاهدة المشاعر و هي تجتاح الوجدان فعلى درجة تعقيد المرض ييسر الدواء فالدواء هو الوعي بالداء . هناك مقولة تقول " لا تحارب الظلام بل  اجلب النور " فبداية الحرية إدراك أنك لست الشخصية المملوكة ( العقل ) . هذا يساعد على ملاحظة الشخصية  و بعدها سيتم إدراك وجود عالم واسع من المعنى وراء التفكير . فالتفكير  ماهو إلا واجهة صغيرة جدا لهذا الصرح  العريض من الجوهر  يسبح معه بل وراءه  الحب و الإبداع و الجمال و الفرح و السكينة الروحية  
يتبين أن معرفة وجود هذا الصوت و القدرة على الاستماع له  هي الخطوة الأولى للانعتاق .  بعبارة أخرى التواجد كشاهد حضور و إدراك التسجيلات التي كانت مخزَّنة بالعقل و بعبارة أثر اقتضابا و أقدر إحالة عن المعنى مراقبة العقل [4]. مراقبة تفتح نصف منافذ السعادة  الأبدية و فرحة الوجود العصية عن كل وصف مهما تُفنن في تصويرها ؛ فمراقب الفكرة ليس كصاحبها و مراقب الشعور الذاتي ليس كصاحبه ( و هو الشاعر ) حينها ستذيب هذه االمراقبة  الألمَ الذي ليس إلا تجل من تجليات التطابق  سر هذه المراقبة و ميزتها التي تجعلني أعُدُّها مفتاح نصف السعادة تخويلها إزالة الأسماء الشكلية التي أطلقناها على الأشياء و العلامات الذهنية التي ألصقناها عليها أذ أن فعل المراقبة يجعل صاحبه لا يفرق بين الفكرة التي خامرته بعدما عاينها بلطف و هي تزور عقله  و نظيرتها التي تسكن الألوف المؤلفة من الناس غيره فيترفع عن التسميات الضيقة لما هو كائن مستنبطا بذلك  قوانين عامة و مبسطة في آن يمكن إسقاطها على جميع عناصر الوجود و حينها يُعاد للوعي اعتباره و يسود العملية الحياتية من خلال آليات المراقبة و الانتباه التي يحوزها بعد أن ساد اللاوعي الجمعي الذي لزم البشر  لدهور حينما استُعيض به  عن الوعي ..
 ماهو الوعي ؟ الوعي هو ببساطة العلم بوضعية التماهي التي عليها الشخص . إذ لو حصلت هذه المعرفة ستحصل نقلة نوعية نلمس معها تغيّر أولي و لافت و هام  في مستوى علاقتنا بما و من حولنا , سيتحقق معه بعدا يبدو محاطا بهالة نورانية تقطع مع حالة التطابق الظلماء التي كنا عليها و بهذا يكون الوعي هو  الارتقاء الروحي و الانتباه المعرفي لدرجة مغادرة النقطة القصوى من نقاط تمركز بيادق الكائن المُغير ظلما الذي يدعى العقل و يتخذ الفكر سلاحا لبسط نفوذه , نحو ولوج دوائر أخرى كنا نخالها غير موجودة من فرط تعلقنا بعقولنا و شتان بين منطقة التفكير و بين الوعي ؛ واهم من يظن أن التفكير مرادف للوعي . إن التفكير هو لحظة من لحظات الوعي و لا يستقيم حقيقيا و بنّاءا إلا بحضور الوعي في حين أن الوعي لا يحتاج إلى التفكير
كما أنه وجب التحذير من أن  يتم هذا الإدراك في قالب فكرة تُضاف إلى مجموع الأفكار .  يحدث هذا حين تلازم عملية المراقبة حكما سواء بالإدانة أو التأييد و ذلك ليس إلا صوت آخر يدخل من البوابة الخلفية للرأس الأنوي المخادع . هذه المراقبة لا يجب أن تكون فكرة بل هو جوهر حضور الإنسان إنه نهوض ناشئ لما وراء العقل ليولّد رؤية موحِّدة لا تتوقف عند الأشكال و الأسماء و تصنيفاتها الذهنية .و هي رؤية موحِّدة[5]  تجعل من الإنسان حاضرا عاقلا منجرا وراء الأفكار
يعني الحضور قوة التواجد ساكنا رافضا لكل فكرة تود دخول بنيان العقل لفترة خلالها تتهاوى الرؤى التي كانت سائدة و تحل محلها معان أسمى و أرقى باعتبار اختلاف مصدر النفاذ لكليها فالرؤية السابقة مسؤول عنها العقل الجنوني أو المجنون كما نعته  إيكهارت أما نتيجة التأمل الجديدة فلا دخل للعقل في بلوغها إنما هي ثغرات الروح التي طالما غُيبت قسريا و تم نكران وجودها فكانت النتيجة حياة مفعمة اكتئابا و غضبا و عدم  رضا و تطلبا و ردود أفعال متفاوتة الحدة  على المستوى الداخلي , و عالم مجنون تبلغ فيها السباقات نحو فرض السيطرة و القتل  أوجها على المستوى الخارجي . فهو البقاء الطويل للانتباه الواعي إلى أن يتمكن المراقب لا من مراقبة الأفكار التي ترد على رأسه و  الأحاسيس التي تراود رأسه فحسب و إنما  مراقبة المراقِب ذاته فتُمسي العملية محاكية لمرآتين متقابلتين تعكس إحداهما الصورة المرتسمة في أخراهما أو مشاهدة فيلم يتبين في أواخر لحظاته أن ما شاهدته ليس فيلما و إنما فيلما يشاهده أفراد عائلة و هم الممثلين الفاعلين
 و لما كان هذا المفهوم ( الحضور) مفهوما باطنيا روحانيا صرفا , كان التفكير حوله أمرا مستحيلا فالحضور هو التواجد حاضرا أما التفكير حوله فلا يعدو أن يكون فكرة عقلية خبيثة تظاف إلى قريناتها من الأفكار من الحاجة إلى الإشباع و الامتلاء و الظهور مثلما الخوف ..
لئن اعتبر العديد من المعلمين الروحيين سواء القدامى منهم أو المعاصرين التيقّظَ ميزة تتيح لفاعلها تحول جذري في الوعي فإن تول يعتبر التيقظ حتمية لا مفر منها إذ يجب معرفة أن الهوية تتجاوز الموقع الاجتماعي و العمل و الصورة و المهارات و هذه المعرفة ستحصل لكل إنسان على وجه البسيطة عاجلا أم آجلا من حيث هو الآخر خاضع لقانون الفناء لذلك يجب أن نعرف ذلك  الآن قبل فوات الأوان لأن الموت يعري هذه الهويات المزيفة و سيدرك المرأ وقتها أنه لم يجد ذاته في أيّ منها . فسر الحياة هو كما هو معروف في التقاليد البوذية ( مت قبل أن تموت ) و ستعرف أنه ليس هناك موت
يقترح تول علاجا هاما يمكن الاستعاضة به عن فكرة التيقظ التي تيدو للوهلة الأولى عسيرة إن لم تكن للجاهلين مجرد هراءات غريبة . ألا وهو ما يسميه الثغرات [6] . و هي وقفات يخلقها الإنسان في مجرى تفكيره و من خلالها ينتبه للحالة التي هي عليها فيبرز الفارق عندئذ بين الغاضب الهائج الذي لا يعرف ما يفعل و بين الغاضب الذي يعرف أنه غاضب و أثناء هذه الثغرات الناشئة في مجرى التفكير , ينبجس الحب و الفرح و السلام و السكينة الحقيقيين اللذين لا نقيض لأي منهم لأنهم قد تركوا الزمن للعقل
العقل و الزمن النفسي
في خضم معرفة خللنا الوظيفي الوراثي الجمعي التراكمي الجنوني و معرفة الدواء القاضي عليه و الكفيل باستئصاله وفق عملية مرحلية تتمثل في رحلة تنوير رائعة ليست مقصورة على البعض بل متاحة لكل تواق لولوج عوالم النقاء القاطعة مع دوائر التفكير المشروطة و القميئة , يتسائل السائل عن دور الزمن صلب ذلك و عن بالوعي
إن العقل و الزمن متلازمان لا ينفصلان بحيث يعتبر العقل اللحظةَ الراهنة تهديدا لأنها لا تؤدي وظيفتها دون عامل الزمن الذي هو الماضي أو المستقبل [7] . و اعتبارا للصبغة العقلية التي تحيط في الواقع بالزمن أو بالأحرى بما نظنه زمنا دون إلحاقه بنعت 'النفسي' فإنه كما أسلفنا الذكر  على وثيق صلة بالعقل  فالعقل هو المسؤول المباشر عن الأبعاد الزمنية التي يستخدمها و تبعا لذلك فإن الدراما تنشأ حين ندع الماضي أو المستقبل يعيقان الحاضر من خلال الأسف و الشعور بالذنب أو بالنقص و الامتعاض . و في المقابل  تتوقف حين نسمح  للكائن أن يكون وفق قبول تام به . لذلك فرفع الزمن من العقل بعد معرفة استقلال كليهما عضويا هو بمثابة الخطوة الأساس نحو الوعي الأعلى و سبيل من سبل  التنوير . فالزمن النفسي يتطابق مع الابراز المعقد للماضي المستمر الى المستقبل  و هو جنون عقلي باعتباره يعادي اللحظة الراهنة . تمظهراته تتمثل في الأفكار و القناعات و الإيديولوجيات و المذاهب التي تقتضي المعاناة من أجل بلوغ الخير الأعلى تحت فكرة الغاية تبرر الوسيلة [8]
فما نعتبره نحن بالزمن ليس إلا مجموع لحظات راهنة لكل واحدة منها تموقعها الزمكاني و صلب الأحداث و هذا هو جوهر العملية الخداعية التي يقوم بها العقل ؛ فهذا الأخير  في سبيل ضمان استمراره في السيطرة يعمَد إلى تغليف اللحظة الراهنة بأغشية الزمن ( ماضي أو مستقبل ) فتحجب الكوامن اللامحدودة لمعانقة المعاني لأنها متلازمة مع روح و جوهر اللحظة الحالية . و من هنا  فإنّ السبيل الكفيل بتغيير حياة المرء بالكامل هو الاستجابة  للحظة الراهنة بالإيجاب بقطع النظر عما تحمله . اقبلها كما لو أنك اخترتها . و في مقابل ذلك فإن السبب المباشر في التعاسة الطاغية على الحالات النفسية للملايين من البشر هو عدم قبول هذه اللحظة في عمقها السرمدي كوعاء موضوعي محتوم ( و هو القدر الإلهي ) لذلك رفض ما تأتي به يكون من قبيل التجني على القدرة الإلهية التي لا تريد سوى الخير ( الخير فيما اختاره الله )
 يبدو أننا نجهل أمرا له من الأهمية الكثير ؛ إن  ما حدث في الماضي حدث في الحقيقة في آن ( في الآن ) و ما سيحدث في المستقبل سيحدث في آن فالحقيقة الوحيدة التي يمتلكها الإنسان  هي الآن هذه اللحظة وحدها من يملك حرية رسمها و إبداعها على النحو الذي يريد . أما الماضي و المستقبل فهما أكذوبتان نفسيتان مردهما الحالة الما-دون وعيية التي عليها الكثير من العامة الذين يمقتون هذه اللحظة و لا يتعمدون تجاهلها أو قد يفعلون فنحن إن لم نرمْ استشراف الآتي كما نطمح إليه واهمين أن خلاصنا و سعادتنا متحققة هناك في نقطة زمنية ما فإننا سنسترجع أحداثا ماضوية سواء كانت سعيدة فنندم على افتقادها أو تعيسة فنواصل عتاب ذواتنا و الندم [9] و هي كلها عمليات عقلية تهدف إلى تجاهل المَكمن الوحيد و الأوحد للسعادة الكونية اللامحدودة .
هذا الكنز الثمين ( الآن ) لا يمكن استجلاء كنهه بقراءة هذه الكلمات ذهنيا إذ لا مناص من تطليق الزمن النفسي أو الأوهام التي نطلق عليها اسم زمن حتى نلج عالم اللحظة الراهنة بما يتضمنه من صفاء و نقاء . فالدخول في الآن يتم عبر إنكار أبعاد  الماضي و المستقبل في الحياة مثلما مراقبة الأفكار و الشعور بالأحاسيس و الانتباه لردات الأفعال . فقط الحضور هو الذي يزيح الزمن بإذابته المنتوجات العقلية التي تعول على المعاناة و تتغذى عليها .و المعاناة مقترنة عضويّا ( مشروطة ) بالزمن ؛ فالعقل يبحث دوما عن المعاناة الحقيقة التي اهتدى إليها بوذا منذ آلاف السنين و المعاناة تحتاج بدورها إلى الزمن و لا يمكن تصورها بمعزل عن الزمن و لذلك فإزاحة الزمن سيصاحبه حتما اضمحلال للمعاناة بعد صدمة الوعي بكونها لا تعدو أن تكون معاناة و ليست حالة طبيعية أو وضع قدري . و لا منفذ يمكن من الدخول في عالم الآن سوى المراقبة و الحضور و ليس التفكير به أو بالفارق بينه و الزمن النفسي حيث يقول إيكهارت تول  "اشعر بقوة اللحظة و الامتلاء بالوجود من خلال الحضور" فإدراك الأشياء من المنظور الخارجي لساعة الزمن ستصاحبه قطعا غبطة سرمدية أسمى من أن توصف
و إذا حاولت إخضاع هذه الكلمات إلى العقل المفعم بآليات المعاناة و الألم الفطريين ستنكر هذا الإنكار اللا مبرر للزمن الذي لا يمكن العيش من دونه [10] . و هو ما تفطن إليه سائل بدعوى أن الزمن ثمين هو الذي يرسم وظائفنا ؛ فالماضي يحدد هوياتنا و  يفرض لنا الأفعال التي ينبغي علينا فعلها في المستقبل فكان جواب الكاتب كالآتي : " الزمن وهم ليس ثمين الثمين هو اللحظة الراهنة التي تلوح خارج الزمن و هي تُفقد حال التفكير في الماضي أو الحاضر
بل تفقد و تُضل حال التفكير فيها عقليا يجب عليك أنت ادراك هذا و ليس عقلك تذكر انت لست عقلك " . . لا يذهبن في الظن أن دعوات قبول الآن تعني وجوب تطليق الزمن   المشروط فنحن نحتاج العقل و الزمن في حياتنا و لكن ليسا كمتحكمين ي حياتنا حتى ينشئ الأول الألم و الثاني الحزن و هذا هو الخلل الوظيفي
إن العقل لا يعرف الشجرة بل معلومات عنها و خطيئته اللامغتفرة هو جعلهما واحدا .  إن عقلي لا يعرفك أنت من حيث جوهر كيانك الخالص بل يحمل حكما و صورة و فكرة أما الذي يعرف الشجرة و القارورة و البحر و أنت ليس العقل و إنما الذات ( فهما ليس واحدا تذكر ) لذلك فالعقل آخر من يمكن أن يكون مدخلا لمعانقة الحقيقة الخالصة بل هو المتسبب في الانحراف التزييفي نحو الأفكار لنعتقد بأنها الحقائق
إن ما نسميه حياة هو وضعية حياة مكونها الرئيس زمن نفسي ماضي ومستقبل[11] .و لحظة تأمل متجردة كفيلة بمعرفة حجم التضليل التي ساهم فيها اعتبار الزمن النفسي و سيادته في حياتنا . و لو تأمل المرء لبرهة مقصيا العقل جانبا و نظر ما إذا تحمل هذه الآونة مشكلة  لأدرك قيمتها الثمينة .  انس مشكلاتك بعد دقيقتين و أجبني هل لديك مشكلة الآن في هذه اللحظة  ؟ لا تفكر بعقلك . طبعا لا . فالمشاكل عقلية بامتياز و إلا بم تفسّر تعاطي مختلف جذريا بين شخصين تعرضا لنفس الشروط الموضوعية لما نسميه ب"مشكلة" . وسندرك أنه  ثمت حياة  تتواجد مباشرة تحت وضعية الحياة لا سبيل لاكتشافها  إلا بالانتباه إلى الفضاء الذي يسمح لكل شيئ أن يكون
إننا نعلق الأحلام على المستقبل و نعلق بداية الحياة الرائعة و نهاية المعاناة على المستقبل و لكن هذا ليس إلا  نمطا ذهنيا قوامه المماطلة و التأجيل اللا نهائي لتبرير الهروب من اللحظة الراهنة التي لا يشاركها أي أمر في حمل السعادة الروحية الأبدية لما تحققه من رضا و سلام داخلي عميقين
إن ما نظنه الفناء أو النهاية أو نهاية العالم هو في الحقيقة نهاية الزمن النفسي و استهلال الحياة التي لا تعرف هذا النوع من الزمن الذي تستهويه المعاناة و الألم و الشكوى
  إذا لم يكن الآن فمتى ؟؟؟
استراتيجية العقل لتجنّب الآن
قد لا تعنينا الاستراتيجية بقدر ما يهمنا سبيل إحباط هذه المخططات المعقدة التي يستخدمها العقل الذي بدوره يمثل أداة طيعة في يد الأنا . و على قدر الدرجة اللافتة من التعقيد التي تسم الميكانيزمات العقلية هذه , يتبدى لنا سبيل تفادي ذلك و من ثمة طريق التنوير الخالد بسيطا كل البساطة . إذ كل ما يحتاجه الإنسان هو قليل من الانتباه حيث ينبغي التفطن للفكرة ساعة مراودتها للعقل و مشاهدة مسارها و آثارها كما يشاهد الطفل دخان الطائرة فيي السماء مثلما أيضا الإحساس بالإحساس حالما ينتاب الوجدان و هذا وحده كفيل بخطو خطوة عظيمة في مسار الحياة  . لذلك يتحتم على المتطابق معرفة أنه متطابق و بذلك يمسي غير متطابق [12]  هذا ما نسمّيه سماع العقل و  الابتسام له [13] و يبلغ ذلك بالمنتبه اليقظ درجة انتظار الفكرة كالقطة التي تراقب جحر الفأر ( الذي يرمز له العقل )  هذا الوعي العالي يشكل مناعة للسلبية المعدية التي تتسم بسرعة انتشار تعاستها فتبرز الضرورة الملحة لأن يدلنا إيكارت تول عن البديل الروحي الذي من شأنه القطع مع الوسائل الخبيثة التي يستخدمها العقل . كما أنه قد نجد أثرا لهذه الحالة لا فقط على مستوى التحول من العقل إلى الوعي بل أيضا صلب العقل ذاته حيث يقول أبو حامد الغزالي في دعوة إلى الانتباه العقلي لوضعية التقليد التي تحاكي وضعية التطابق و تشتركان الكثير من الخصائص  " شرط المقلد أن لا يعلم بأنه مقلد " . فالفرق شاسع بين من يشاهد التلفاز و يظن أن ذلك فيلما و بين من يشاهد التلفاز و يدرك بأن ما يشاهده هو جزءا من فيلم  ( الجزء الذي يصور الفيلم الذي يشاهدونه الشخوص الرئيسة في الفيلم )
إن سبب الخلل الوظيفي هو عدم الانتباه أي السلوك بعلم و دون وعي و شتان بين العلم و الوعي فمصدر العلم هو العقل و مصدر المعرفة أو الوعي هو الإنسان الذي لا يمثل العقل سوى مكونا من مكوناته و عضوا من أعضائه البيولوجية فلئن كان عدم الانتباه هو الداء فإن الانتباه أو الوعي هو الدواء : وعي بالتقوقع في دائرة واحدة  و ذلك حين يسطع نور الوعي عليه فبجهره و يذيبه
لقد تحدث بوذا في حقيقته الأولى التي لم يكن الطريق نحو الاهتداء إليها يسيرا عن المعاناة باعتبارها الوضعية المحتومة السائدة التي عليها الإنسان في مستوى وعيه الأولي أو العادي أو الطبيعي و ذهب لاعتبار أن جذور المعاناة هي ما نجده في متطلباتنا و رغباتنا الملحة المستديمة ( الجمعية المتوارثة منذ صدر الإنسانية ) اختلال وظيفي متراكم وصفه فرويد بدقة تحليلية صلب كتابه "الحضارة و سخطها" لكنه لم يهتد إلى أسبابه و جذوره فما كان له إلا أن استبعد إمكانية إيجاد دواء لذلك  . لو كان يعلم داء هذا المرض البنوي لوجد الدواء له و لتأكد  من نجاعته من خلال إجراء التجارب الهادفة للتثبت
الانتباه كبديل روحي للتطابق
لما يدرك الإنسان محدودية الكلمات عن لمس الحقائق التي ترمي إلى التعبير عنها و يدرك عجزها في الكثير من الأحيان ستجده يعترف بحماقته السابقة للحظة قيام هذا الوعي الحاصل و لن يحدث هذا إلا للباحث عن الحقيقة المستعد في سبيل إدراكها لبذل كل ما يمكن و لن يحدث للمكابر المتعنت الذي تورط في حكم أطلقه أو رأي تبناه فانحرف مسار بحثه من استهداف الحقيقة إلى تبرير وجاهة ذاك الموقف حتى لا يُرمى بالغلط  و إثبات أنه على حق و أن الآخرين على صواب . هذا الباحث المتجرد سيلقى نفسه في لحظة غبطة غامرة حينما يصطدم بحقيقة أن الارتباط بالعقل يجعل الكلمات معبود عقلي ( تراكم الأفكار و التفسيرات الخاطئة بخصوص الكلمات عبر القرون ) . فكلمة العسل لا يقصد بها ذات العسل و كنهه , حيث يمكن دراسة العسل لسنوات و لكن لن تعرفه إلا حين تتذوقه . و  بعدها ستصبح الكلمة أقل أهمية و لن تلتصق بجوهر العسل بعد الآن ----  انظر إلى الواقع الكامن خلف الكلمات ( الكلمة هي دلالة على ذات . شيء . حقيقة . واقع ) و هذه الدلالة تبقى نفسية مرتبطة بالعقل أو العادة أو الدأب الذي جعلها تكون كذلك فيبقى من السذاجة الاكتفاء بها و اعتبارها تختزل كل المعاني الممكنة الشيء . و هذا الشرخ بين دلالة الكلمات المحدودة و بين حقيقة الشيء البعيدة يشرّع لواحد من أهم سبل التنوير الروحي  و هو إصلاح الوعي من العقل و ذلك بتركيز الانتباه و أخذه بعيدا عن التفكير  و توجيهه إلى الجسد  للشعور بحقل الطاقة الخفي الذي يعطي الحياة ما تريد إظهاره كجسد بشري ( الشعور بالحياة داخل أعضاء الجسد ) ذاك ما لم يغفل عليه أي معلم روحاني على الإطلاق . يقول إيكهارت تول  " اشعر بحياة التي تدب في الأعضاء اشعر بحقل الطاقة الوحيد  الرقيق الذي يعم كل جسدك بدون تفكير و انتبه إلى الشعور لا إلى الصورة" . و كيف لا نفعل ذلك و قد أدركنا حجم الهوة الفاصلة بين المعتاد من العبارات و بين حقيقة الأشياء و علمنا أنّ ما يحدث ليس كل ما يمكننا إلصاق علامة ذهنية له و إنما ما يمكننا جلب الشعور به في الإدراك . و هذا م ندعوه بالاستخدام المبدع للعقل  أو الانتباه كما يسميه إيكهارت تول الذي يقول " أوقف التفكير للحظة  ركز انتباهك على حقل طاقتك الداخلي انتبه إلى السكون." و عندما تستأنف الفكير إثر هذه العملية التأملية  سيكون ناعما و طريا و مبدعا فيقصُر بذلك طريقنا نحو  السلام الداخلي و يبدأ العالم غير  الظاهر في التجلّي  الوضوح شيئا فشيا
الآن هو العالم غير الظاهر
لا بد للإنسان من معرفة أن النقطة المفصلية و الأكثر أهمية في مشوار الحياة لدى الجميع هي إدراك أن جميع الأشكال الحياتية و الأنماط السائدة ليس إلا مستوى أدنى من الوعي و بأن هذا المستوى يختلف عن الوعي و بما أنه مستوى من مستوياته ناهيك عن أنه ليس هو ( و هو التحول الأبرز ) فإنه توجد مستويات أخرى للوعي عدم معرفتنا لها لا يشرع لإنكار وجودها . هذا ما يعبر عنه تول بإدراك الوهم و اعلم أنه لو لم يكن هناك وهم لما نودي بالتنوير بل لما كان وجد التنوير أصلا . فالحديث عن تنوير وفق أحكام السببية يحتاج ضرورة للبحث في الشيئ الذي يسعى للانعتاق منه . هذا ما يحيل للحديث عن رأي الطاوية التي لا يمكن أن تُتجاهل في كلمات عن التنوير و الوعي .فالطاوية تقرّ بعلاقة الأضداد و إنتهائها إلى بعضها البعض فالطاويون لا يفرقون بين الخير و الشر أو بين الظلمة و النور أو بين الأسود و الأبيض إذ كلا القطبين هو أساس وجود القطب الثاني و السبب المباشر و الأول للحديث عنه  فلا يوجد بذلك شيئ من دون لا شيئ . هكذا عبرت أحد النصوص المقدسة البوذية [14] " لو لم يكن اللا شيئ لما وُجد الشيئ" .  
و هو ما يبرر البحث في حقيقة أقل سطحية و أكثر عمقا من السقوط في الانتصار لقطب على حساب قطبه النظير عسى أن يتم الاهتداء إلى حقيقة واحدة كما اهتدى إليها لاو تسو [15] فلئن تعددت البدائل أو في بعض الأحيان تختلف المفاهيم و المعنى واحد فإن ما يناظر مفهوم الطاو ( التاو ) في الديانة الطاوية بالنسبة لإيكهارت تول هو فكرة السكون أو الصمت من حيث هي  المؤدية مباشرة للآن فالصمت هو أساس الصوت يفترض الانتباه له لإدراكه و بعبارة أخرى البعد اللاظاهر أو اللاشيء . وهذا اللاظاهر الواحد كان موجودا قبل الانفجار العظيم ( لم يكن هناك فضاء ينتظر ليُملأ إنما كان لا شيئ فهو حقل أبدي ( كان و لم يكن قبله شيئ و لا يزال ). و كما يقول شوانغ تزي " اسبقه لا ترى له بداية الحقه لا ترى له نهاية " أنه يستوعب البدايات و النهايات و هو أحب من أن نحصر مداه . أما النهاية أو الموت فهو مدخل آخر غير طوعي للوعي الأبدي و هو فرصة كبيرة للإدراك الروحي و هو ليس خسارة أي أمر إنما الثقافة من تجعل منه خسارة و تجعل منه يمثل نقطة النهاية و لحظة الفناء [16]  .  فمن يظن بأن النهاية هي الموت هو لا واعي و متطابق تطابقا أعمى بل من يظن بأنه هناك نهاية فهو كذلك . إن الموت هو موت الذات الزائفة حينما نجربه نتيقن من وهمه مثلما وهم الأشكال النفسية الأخرى التي يتتطابق معها المرء ( و هي أشكال نفسية يصنعها العقل . و هو مؤلم فقط طالما هو مقرون بالوهم طالما لا يزال يشكل لنا مصدر خوف مستمر
هكذا يكون الانتباه علاجا روحيا فعالا لكل الأمراض المزمنة و الخطيرة التي سبّبها الموروث العقلي على مدى سنون مديدة و هي بالفعل خطيرة نظرا لتغطيتها جل الجوانب في الحياة ( العلاقة مع النفس . مع الله . مع الآخرين . و مع الموجودات الجامدة و غير الناطقة ) فكان الدواء شاملا شمولية و استفحالَ الداء .  و هو يفتح أبواب العالم غير الظاهر الذي يتجاوز المفاهيم المعتادة و العادات المجترّة ليسبر أغوار أعمق و أبعد . كما  ألقى الانتباه بضلاله على كل أمر في الحياة بل ساهم في تقصير الخيوط الرابطة بينها و أوضح الوشائج التي تقرنها ليجعل الكامن وراءها كلها واحدا فعلاقتنا بالله هي ذاتها بأنفسنا و هي ذاتها بأبنائنا أو بوالدينا و هي ذاتها علاقتنا الرومنسية و الطبيعة التي اخترناها لإحداها ستسقط لا محالة على سائر العلاقات الأخرى و تؤثر بذلك على نظرتنا الموحدة للحياة و الوجود
على أنه لا ينبغي أن يتم التفكير في البعد غير الظاهر ( اللاشيئ ) عقليا فذلك يجعل منه شيئا . هذا البعد يُدرك فقط و بذلك يتم النفاذ للوعي الخالص داخلنا
العلاقات
من أهم تمظهرات الخلل الوظيفي الجماعي الوراثي المتراكم عبر الدهور في مستوى جانبه النفسي نجد الإحساس بالنقص أو عدم الاكتمال حيث ما يغلب حالات كثيرنا قناعة كوننا نصف واحد من الكل . قناعة زائفة بالتأكيد لأنها تقوّض حقيقة الإنسان في الوجود و تجعل منها في حاجة إلى اكتمال و لن يتحقق حسب الاختلال  الوظيفي هذا الاكتمال إلا من خلال علاقة شخصية ما مهما كانت طبيعتها و الاسم المطلق على هذا الرابط رغم أن الكثيرين يجدون هذا الاكتمال يتجلى أو على الأقل ( يُرتسم تجليه في المخيلة  ليضحيَ حلم يلازم صاحبه ) من خلال ما يسمونه بالحب  و هو في الحقيقة الحب حاجة نفسية قوية لتلافي الإحساس بالنقص تترجم بلقائنا بشخص مؤقتا. لينتج عن الإيمان بهذه الفكرة التي ولّدها و رسخها العقل استجابة لأوامر الأنا التي تقتات من الألم و تغذيها المعاناة و تهاب التيقظ لأنه بعجل بفنائها , فتكون النتيجة المنتظَرة تعمّق الشرخ بين الصورة الذهنية الذي يتمنى رؤيتها متجسدة يوما ما و بين الإمكانات الحقيقية و الحقيقة الموضوعية التي تقول بأن حصر الحياة في بعد واحد هو من أدق تجليات حالة التطابق ( و هو ما سنتحدث عنه في القسم الموالي ) و باعتبار أن الحالم الواهم أوقف سعادته و خلاصه و نجاحه على تجسيد تلك الصورة على الواقع فإن الإحباط مصيبه لا محالة سواء تجسد أم لا . ذلك أن التطلب و عدم الرضا من خصائص العقل الذي أبدع في نسج الصورة على خياله و هو لا يريد بنسجه للصورة أن تتحقق إنما يريد للمعاناة أن تتواصل و هذا هو لب عمل الأنا المسؤولة عن التضليل الإنساني    .فمهما كان وجه الصورة المتحققة فإن العقل سيرفضها رفضا قاطعا و إلا فما كان عقلا
على أن المعضلة ليست في سبيل بلوغ هذه الصورة بل في وهم هذه الصورة نظرا لاعتبارها السبيل الأوحد للخلاص . إن الخلاص ليس في زمن أو مكان أو حدث آخر إنه هنا و الآن . الخلاص الحقيقي هو أن نعرف أنفسنا كجزء ملازم لحياة واحدة سرمدية لا شكل لها . ( الخلاص فوق الماضي و المستقبل كحاجة نفسية )
إن أولى الخطوات نحو ملامسة السماء التي تسمح للكائن أن يكون هي معرفة زيف العلاقات الرومنسية في وجهيها الإيجابي و السلبي باعتبار أن كلاهما هو أساس الآخر كما بيننا آنفا
فإذا كان الشخص واعيا للذات . قادما من الذات تبدو هيئته أنها بحاجة إلى احتياجات معينة باستمرار و لكن الذات لا تحتاجها إنها كاملة و إذا التقت هذه الاحتياجات  فلا يؤثر ذلك على حالته الداخلية العميقة. فما نسميه حبا ليس إلا حاجة نفسية جامحة تسعى لسد عيب النقص الذي به نؤمن أيما إيمان و دليل ذلك اعتقادنا بأنه شعور له مقابله و له حدوده الموضوعية المشروطة إذ بهذا سمحنا له أن يكون مفهوما عقليا بامتياز . فلا مناص من تطليق هذا الوهم و من إدراك أن الحب هو القبول بما هو كائن و هو لا يتجه إلى الخارج بل إلى الداخل و هو ليس مفهوما بل إدراكا داخليا عميقا لا يمكن وصفه بالكلمات. و لهذا فإن توتر العلاقات مرده أنها  متألفة من تفاعل العقول لا من اتصال الذوات البشرية
إن الحب و الفرح و السكينة يقبعان وراء الأحاسيس لا يُدرَكان إلا بالانتباه للأحاسيس ( الإحساس بالأحاسيس ) و هي ما وراء أحاسيس لا نقيض لأي منها لأنها تنبثق من الوعي السرمدي و ليست مفاهيم أو مشاعر يسببها العقل فهذه الأخيرة هي أحاسيس قصيرة العمر  و هي لا تعدو أن تكون جانبا من التيار المتناوب المستمر لجدلية المتعة و الألم التي يتمحور حولها العقل المتماهي مع الذات
ما وراء السعادة و عدم السعادة هناك السلام
من أهم تجليات الاختلال الوظيفي اصطباغ الكثير من البشر ( الذين لا يرون حاجة للتنوير ) بصبغة سطحية تجعلهم يسلكون و يفكرون على نحو شبه انفصامي إذ أعماهم الجنون عن فضاء روحي واحد يسمح للشيئ كلّ الشيئ أن يكون و يمنع الشيء على أن يكون. وهو مما حال دون النفاذ للكم اللانهائي من الاحتمالات المتوفرة و التوهم أن الأمر إن لم يكن على هذا الشكل فإنه سيكون على ذاك فإما أبيض أو أسود و قد يكون في نظرهم رمادي بعض الأحيان . بيد أن المثير للغرابة هو أننا ظننا أن الألوان التي نعرفها هي كل الألوان الموجودة في الواقع . و إزاء هذا يرى من يفتح عينيه الألوفَ من المتساقطين في هذا الشراك كالذباب . في المقابل فقط الحكيم من يدرك أن كل شيئ مؤقت و أن كل أمر هو مقدمة لضده باعتباره يخضع لقانون الزوال الذي جعله بوذا جزءا من تعاليمه الأساسية  و لأن كل زوال  ينبئ بنشأة الضد فإن الحياة الإنسانية لا تخرج عن هذه الدائرة التي تشكل إحدى السنن الكونية في الحياة  و تلك الأيام نداولها بين الناس  
لذلك من يدرك حقيقة قانون الزوال الذي لا يستثني شيئا إلا و طاله ستنشأ داخله يقظة روحية عجيبة تهمس له بلا جدوى تعلقه بأي حالة إيجابية كانت أم سلبية و بأنه لو فعل ذلك سيجده يقاوم التغيير بدل أن يلاينه و يقبل به و يبتسم له ابتسام الواثق بأنه إن كان إيجابيا سينقضي و إن كان سلبيا سينقضي أيضا [17] .فقط حينذاك سنسمح للشيء أن يكون كما هو فنذهب ما وراء عقولنا مع و نتمرد عن أشكال المقاومة التي تخلق الأقطاب السلبية و الإيجابية . ذاك هو معنى المسامحة أو القبول
فالتطابق مع الأشكال السلبية إذن  يجعلنا لا نريد لها أن تذهب من مستوى عميق من اللاوعي  لذلك ترانا نرفض التغيير الإيجابي باعتباره يهدد الهوية المتطابقة التي صنعناها لأنفسنا
و في هذا الشأن يقول إيكارت تول  "أن تذهب ما وراء الأضداد العقلية تصبح كالبحيرة العميقة  الحالة الخارجية لحياتك و كل ما يحدث هناك هو سطح البحيرة أحيانا هادئ و أحيانا عاصف و عنيف تبعا للدورات و الفصول"
هناك حصرا تتجلى الحاجة الملحة للانتباه و ملاحظة تلك  الطاقة الذهنية المستنزفة  في سبيل  حاجتنا إلى أن نكون محقين و أن نجعل الآخرين على خطأ تلك الطاقة تقوي آليات الأنا المخادعة [18] . فلا فكاك لطالب الحرية من القبول الكامل  و الرؤية من منظور عالي للجيد و السيئ  ليجد تحت ذلك حضور ثابت قابع و سكون عميق لا يتغير و فرحة تلقائية وراء ذلك . فرحة الوجود
تقوم العقيدة الطاوية أساسا و جوهريا على اعتبار أن الوجود ليس في تفاعل و صراع الأقطاب المفهومية و إنما على المصدر الأبدي الذي يسمح لها أو لأحدها بالتواجد و بالظهور أو الكينونة و هو ما يبرر ضرورة الرؤية المتناغمة و التوائمية بينها من أجل النفاذ إلى أفق أوسع بل أفق تنصهر فيه الأوهام ( بفعل التطابق ) و تظهر فيه المعاني الحقيقية للسعادة و الحب و السلام و السكينة و فرحة الوجود .فالطاويون لا يعترفون بصراع الأقطاب من أجل سيادة أحدهما على الآخر بل إنها تنشأ معا في وقت متزامن و يأخذ كل ضد معناه من ضده حيث لا نور بلا ظلام ز لا خير بلا شر و لا وجود بلا عدم و لا حياة بلا موت [19]
ما يبعث الحزن في النفس حقا هو هذا المزج بين الحياة و ووضعية الحياة الذي يصاحبه بالطبيعة جهل أن الحياة أوسع من مجموع الأنماط التي بداخلها التي يسميها  حيث نعتقد أن الأنماط تكّون وحدها الحياة لكن في الحقيقة الأنماط ماهي إلّا مجرد مكون من مكونات الحياة اللامحدودة و العصية عن الحصر . و ينتج هذا المزج تعلقا بإحدى هته الشروط لدرجة اعتباره الهويةَ أو الذاتَ . و هذا ما ينبئ ببداية الكارثة . هذا التعلق يجعل  نجمة شهيرة تقدم على الانتحار بعد انتفاء مظاهر  الجمال في وجهها و جسمها و هو الشرط الذي كانت توحد بينه و ذاتها ( حقيقتها ) فقد تطابقت مع شرط مظهرها الخارجي و نسيت أنها كانت يوما لا تولي أي اعتبار لمظهرها الخارجي و نسيت أنها تحتوي على ما أبعد و أشمل من ذلك . و هو الحال ذاته قد يحصل مع من تحصل له خسارة مالية كبرى تجعله يعتبر نفسه انتهى بانتهاء هذا الشرط الذي كان يشكل له العناصر المكوِنة لهويته فيقدم على الانتحار هو الآخر أو كما يفعل من يفقد علاقة أو شخصا كان يظن أنه الشطر الضروري و القدري المسخر لمواصلة حياته معه . هؤلاء لا يميزون بين حياتهم و حالات حياتهم هذا الفخ الذي سقط فيه العديد من الأشخاص الذين يتمتعون بذكاء عال . منهم العديد من الفلاسفة الكبار و  المثقفين المشهورين لكنهم غير واعين تماما . إذا لم يتلازم النمو العقلي و زيادة المعرفة مع نمو في الوعي فاحتمال الكارثة و عدم السعادة سيكون كبيرا جدا
ثمة أمر آخر كفيل بملامسة الحقيقة التي تسحق هذا الزيف و هو التفكير في الموت الشكلي الذي ينتج وعيا بأن الإنسان أعمق من جسد و وظائف بيولوجية مما قد يجعل الإنسان لا يكترث لمظهره الخارجي بعد أن تبين له أنه ليس هو و أنه[20] ليس مظهره . هذا قد نبلغه باتباع  واحد من أقوى التمارين الروحية هو التفكر مليا و بعمق  في فنائية الشكل و  الطبيعي . يمكن أن نطلق على هذه العملية "مت قبل أن تموت" و ستعرف وقتها أنك لن تموت أبدا
فقط حينئذ ندرك أن القاسم المشترك للجميع هو أن الجميع سيكون يوما ما ( بعد سنتين أو 60 سنة جيفة متعفنة ثم أكوام من الغبار ثم لا شيئ على الإطلاق . هذا الفهم الواقعي و القاهر ليس فكرة سلبية إنما هي حقيقة قد آن لها أن تكون موضوع وعي . عسى أن  تنغرس فينا قناعة راسخة مفادها أنه إذ أن قانون الأقطاب الذي يعني أن لا شيئ يمكنه البقاء دون مقابله هو الذي يحكم الوجود فإنه بات من العبث مواجهة الأقطاب التي تبدو لنا سلبية في ضغط واضح على القدرة الإلهية أو الكونية ظنا منا أن مقاومتنا ستؤتي أكلها غير مدركين بأن المقاومة هي آلية عقلية أنوية بامتياز
المقاومة بما هي آلية عقلية أنوية بامتياز
ينتصب الاستسلام بديلا روحانيا للمقاومة بما تحمله من مخاطر على الوعي الإنساني الذي لا يزال حديث النشأة بعد معرفته النسبية بحال التطابق التي كان عليها . و لعلّ من أهم هذه المخاطر مقاومة التطابق ( اللاوعي ) ذاته فعلى اعتقادنا بأنها ستسهم في القطع مع وضعية اللاوعي هذه و مع حسن نوايانا إلا أن الذي نجهله هو أن مقاومة السلوك غير الواعي لدى الآخرين يجعل منا غير واعين نحن الآخرون . حيث ستكون النتيجة سقوطا في الضغط على السير الطبيعي للأمور و محاولة لا واعية في فرض اتجاه جديد للأشياء أو تحويل الاتجاه السائد . و في مقابل ذلك فإنه من الخطأ القول بأنه لا دور للإنسان الواعي في نشوء وعي جديد لدى الآخرين بل إن دوره جد هام و سبيل ذلك ليس المقاومة و إنما المتابعة الروحية الواعية و السلسة و الحذرة للوضع السلبي يقول تول  "لا تقاوم الحالة السلبية اشهد عليها دون إلصاق أي علامة ذهنية"
على أنه من غير الوجيه أن لا نفرق بين الاستسلام و الموقف . فما نعنيه بالكف عن المقاومة هو مشاهدة جميع الأحداث بحضور عميق مرده معرفة أن هذا أيضا سيمرّ . أما و أن يقول أحدهم معتقدا أنه يمارس استسلاما مقولة من قبيل " إني لا أهتم بعد الآن" فهذا ليس استسلاما بل مجرد موقف ملطخ بالسلبية فهو مقاومة مقنعة
إن الاستسلام الذي يمثل طورا مهما من أطوار الوعي و الانتباه يتنافى جوهريا و التعاسة فالسبب الأوحد لظهور أي سلبية أو معاناة هو التطابق و بذلك فإنه لا يمكن للشخص أن يكون واعيا و غير سعيد أو في حالة سلبية ؛ ذلك أن المعاناة تعني لا وجود للمقاومة و المقاومة هي دائما لا وعي . غير أنه قد يقول أحدهم أنه باستطاعته الانتباه لمشاعره غير السلبية . قد يبدو هذا صحيحا لا سيما في مستهل مشواره في تحول الوعي لديه  لكنه ينبغي أن يعلم أنها لن تظهر إن لم يخترها و إذا توهم مجددا أنه يراقبها فهو يتطابق معها و ليس واع بوجودها . إذ كيف لها أن تظهر إذا لم يخترها إنه يتطابق معها دون وعي بوجودها لأن الوعي يفترض الاختيار. و الخيار يبدأ من لحظة عدم المطابقة مع العقل و أشكاله و إذا توفر الاختيار سوف لن نختار سوى ما يحقق سعادتنا  ولهذا فإن رد فعل الشخص إزاء المستجدات هو المحدد الرئيس لحاله الداخلية العميقة فليس الحالة من تخلق المعاناة بل مقاومتنا لتلك الحالة و بالمقابل ليس الحالة ما ترسم السعادة إنما الحضور المستسلم وحده من يفعل ذلك
يقول إيكارت : "لا تركز على مائة شيئ يمكنك أن تفعلها في المستقبل , ركز على شيئ واحد يمكن أن تفعله الآن" . إن هذه الدعوة لا تعني عدم وضع الخطط و لكن لا يحب أن لا نطفق  بتشغيل الأفلام الذهنية نظرا لأن أي خطوة نخطوها قد لا تؤتي أكلها في الآن  فحريّ بنا أن لا نقاوم ما نكون . لأننا نتشهد حالة الانعتاق يوما ما و سنرى هذه الحقيقة بأم أعيننا . حقيقة وضاعة ما كنا نعتبره ثمينا سواء كان ذلك قبيل الموت بلحظات أو في الحالات القصوى حين تبلغ المعاناة مبلغها إلى درجة الفيضان فتخرج من نطاق تحكم الأنا و العقل و مع ذلك سنجد أنفسنا أحياء و أي حياة نحيا ... . تفسير ذلك الوحيد هو أنك لست عقلك  
لقد أنتجت  الحالة القصوى معجزات كثيرة .هناك مجرمون ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام في اللحظات القليلة الأخيرة لحياتهم  مارسوا حالة اللاذات و الفرح العميق و السلام الذي يرافقه فأُرغموا على القبول الكامل بما هو غير مقبول و استطاعوا الانعتاق و الراحة التامة من الماضي . هذا استسلام لا إرادي لأنهم أرغموا على دخوله عنوة و قد كانت المقاومة الداخلية في ذروتها و بلغت التشبع إلى درجة إنتاج معاناة لا تُحتمل لا يطالها العقل الأنوي رغم قدرته العالية على استيعاب الحالات ليفسح المجال عندها  إلى عقل ذات الإنسان لا إلى عقل الإنسان و هو العقل الكوني العظيم الذي ما سماه عالم الفيزياء الألماني اينشتاين ب عقل الإله و لذلك فليست الحالة القصوى من تفسح المجال لمعجزة الانعتاق إنما هو فعل الاستسلام الذي يعني في بعده المعمق فعل لا شيئ الذي يختلف جوهريا عن عدم فعل شيئ و ما أرفع الخيط الفاصل بين أن لا تفعل شيئ و بين نفعل لا شيئ فالأول هو ترجمة طبيعية منتظرة لحالة التماهي مع المستوى الاعتيادي أو الأول من الوعي ألا وهو العقل أما الثاني فهو استجابة لمقتضيات الحضور و الانتباه و الوعي و السماح لكل ما يحدث بأن يكون
هناك تعبير طاوي يدعى  WU WEI وو وي يتترجم تقريبا ب نشاط من دون تأثير يعتبر أحد أعلى الإنجازات القديمة في الصين القديمة و هو مختلف جوهريا عن عدم النشاط في الحالة الاعتيادية و العادية للوعي ( التي هي لا وعي ) . فالاستسلام هو الفعل لا رد الفعل إذ يمكن اختبار الذات لمعرفة ما إذا كانت في وضعية استسلام و يقظة أو لا زالت مستمرة على حال التماهي و ذلك من خلال تأمل دافع الفعل الحالي فإذا كان استجابة لاستفزاز خارجيي أو محاولة تبرير أو دفاع فاعلم أنه رد فعل و أنك تبعا لذلك متطابق مع الأنا القشري الطفيلي و السرطاني الذي يتغلغل داخلك أما إذا كان الفعل الراهن تلقائيا وليد إيمان يقظ و حر بقانون زوال الكل و بقاء الوعي الأعلى و الذكاء الكوني الذي يتحكم في عين الوجود بما يحويه من كائنات عاقلة و لا عاقلة على حد السواء و في تطبيق بسيط لهذا الاختبار نخلص حين نلقي بنظرة عابرة عن مرتادي الفايسبوك إلى أن ما يفعله معظم هؤلاء هي ردود أفعال فهم ينجرفون وراء آخر الأخبار أو المعلومات مهما كانت مدى صحتها دن فعل استباقي أو إبداعي و هو ما يدق جرس إنذار هبوب الكارثة الحقة و العاصفة الجارفة بآخر ما تبقى من أطلال الفكر الإنساني الحرّ





[1] صيغة تفضيل من فعل روّع على وزن فعّل ( جذره ر,و,ع)
[2] الصوت الذي في الرأس هو الدور الدرامي الحالي الذي تلعبه الأنا باستعمال العقل
[3] تختلف الأسماء المطلقة على هذه الحالة بحسب اختلاف الأديان و المدارس الروحانية و التقاليد الحكموية  ليأتي واين داير معلنا ( لا يهم ما نسميها .  الله , الروح , الكارما النيرفانا , مفعول مهاريشي أو حتى ستيف .. لا يهم
[4] تعتبر المراقبة مفهوما وهريا في التقاليد الروحية منذ مهدها فالمراقبة من سمحت باكتشاف بوذا لحقيقة أنه ليس عقله و ليس جسده و ليس تنفسه
[5]  بمقتضى الرؤية الوحّدة تنصهر الحواجز الذهنية التي تفصل المفاهيم و تقيم التعاريف لها و الخصائص المميزة لها  عناصر الوجود التنوير هو القطع مع تجزئة الأفكار إنه الاتحاد المنسجم بين الوجود و الذات الحقيقية و مصدرهما

[6] في كتابه  "أرض جديدة" يعزو هذه اللحظة إلى ما يسميه بالفضاء الداخلي و قد خص هذا المفهوم بفصل منفرد
[7] تخيّل أننا نعيش على أرض قاحلة منذ ملايير السنين حيث لا وجود للإنسان و تخيل أن تسأل شجرة البلّوط نسرا كم الساعة أو ما التاريخ اليوم سيكون  سؤالا غبيا   سيقول النسر نحن في الآن طبعا
[8] ( 50 مليون شيوعي ماتوا في القرن العشرين كلهم يؤمنون بمبادئ و يعتبرون الموت في سبيلها المبادئ  عن السلفيين المتطرفين )
[9] نحن نحب الماضي لأنه مضى و لو عاد لكرهناه
[10]  لكنك سترى نورا مشعا ينبعث في كيانك لو أقلعت عن إخضاع كل ما تقرأ الى عقلك
[11] يقول جلال الدين الرومي : الماضي و المستقبل يحجبان الله عنا احرق كلاهما بالنار

[12]    يقول إيكهارت تول : معرفة أنك غير حاضر حضور
[13] ( الابتسام يعني القبول مهما كانت الحالة التي جاء بها فهي زائلة كما سنبين في القسم ما قبل الأخير
[14]  HEART  SOUTRA
[15] انظر مقال بعنوان التاو جوهر كل الأشياء
[16] يقول أحدهم   الإتسان غافل ينتبه حين يموت
[17] حملت بنتا عزباء يوما و اتهمت جارها المعلم الروحاني و راهب الزن هاكوين المعروف بتزهده و دماثة خلقه  و قد تشوهت صورته في اليابان بأسرها و أصبحت الألسن تلوكه  لكن ردة فعله حين ألزمه والد الفتاة بالعناية بالوليد كانت هادئة و كان يقول كعادته و في ابتسام "أحقّأ " بيد أنه و بعد عامين اعترفت البنت بأن الأب الحقيقي هو جزار القرية و ما كان لوالديها إلا أن قصدا  هاكوين طالبين منه استرجاع الرضيع فحالما سمع المعلومة الجديدة قال في هدوء الواثق "أحقّا ؟" و قدم لهم الفتى وسط دهشتهم من عدم غضبه 
[18] يقول واين داير " إذا أتيح لك الخيار و الخيار دائما في يدك بين أن تكون طيّبا و أن تكون محقّا فاختر أن تكون طيّبا ( صاحب الكلمات )
[19] DUKKHAالبوذيون كلمة كلمة باليّة ( الأسفار البوذية المقدسة ) تستعمل لللدلالة على معنيين متناقضين . هذا يعني أن المعاناة و السعادة هما في الحقيقة  واحد يفرقهم فقط خداع الزمن الي ينطلي المتماهي

[20] الضمير المتصل الأول يعود على الشكل الخارجي و الثاني يعود على الشخص